الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْوِيلُهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، أَيْ: وَأَنْتَ مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَاسْتَغْفَرَ مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ، حِينَ اسْتَغْفَرَ أُولَئِكَ بِهَا: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}". قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَعَذَّبَ الْكُفَّارَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}". قَالَ: فَكَانَ أُولَئِكَ الْبَقِيَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بَقُوا فِيهَا يَسْتَغْفِرُونَ يَعْنِي بِمَكَّةَ فَلَمَّا خَرَجُوا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}". قَالَ: فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي وَعَدَهُمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَعْنِي: مَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}"، يَعْنِي مَكَّةَ، وَفِيهِمُ الْكُفَّارُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ}"، يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُم"، وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، يَسْتَغْفِرُونَ، يُغْفَرُ لِمَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: بَقِيَّةُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}". قَالَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ. أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنَ نَبِيطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}"، قَالَ: الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}" قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَقُولُ: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ يَسْتَغْفِرُونَ بِمَكَّةَ، حَتَّى أَخْرَجَكَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُعَذِّبْ قَرْيَةً حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ مِنْهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَيُلْحِقَهُ بِحَيْثُ أُمِرَ " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَعَادَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} "، قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَأَنْتَ فِيهِمْ، يَا مُحَمَّدُ، حَتَّى أَخْرَجَكَ مِنْ بَيْنِهِمْ " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ}"، وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، يَقُولُونَ: "يَا رَبِّ غُفْرَانَكَ!"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الِاسْتِغْفَارِ بِالْقَوْلِ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}"، فِي الْآخِرَةِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ يَقُولُونَ: "لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَك"، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ قَدْ!" فَيَقُولُونَ: "إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَك"، وَيَقُولُونَ: "غُفْرَانَكَ، غُفْرَانَكَ!"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}". فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِيهِمْ أَمَانَانِ: نَبِيُّ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْفَارُ. قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ الِاسْتِغْفَارُ " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}"، قَالَ: فَهَذَا عَذَابُ الْآخِرَةِ. قَالَ: وَذَاكَ عَذَابُ الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَا قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: مُحَمَّدُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِنَا: " {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا}" الْآيَةَ. فَلَمَّا أَمْسَوْا نَدِمُوا عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالُوا: "غُفْرَانَكَ اللَّهُمَّ!"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}" إِلَى قَوْلِهِ: "لَا يَعْلَمُون". حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ: وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُنَا وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ، وَلَا يُعَذِّبُ أُمَّةً وَنَبِيُّهَا مَعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا! وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَرَسُولٌ لِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ لَهُ جَهَالَتَهُمْ وَغِرَّتَهُمْ وَاسْتِفْتَاحَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، إِذْ قَالُوا: " {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}"، كَمَا أَمْطَرْتَهَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقَالَ حِينَ نَعَى عَلَيْهِمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، أَيْ: لِقَوْلِهِمْ: [" إِنَّا نَسْتَغْفِرُ وَمُحَمَّدٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا "" وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّه"، وَإِنْ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ]، وَإِنْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ كَمَا يَقُولُونَ "وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَام"، أَيْ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَبَدَهُ، أَيْ: أَنْتَ وَمَنْ تَبِعَكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ..................... قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلُ أَمَانَانِ، قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}" قَالَ: أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ دَائِرٌ فِيكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرٍ أَبِي الْخَطَّابِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَلَاءِ يَقُولُ: كَانَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَنَتَانِ: فَذَهَبَتْ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، الْآيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، يَا مُحَمَّدُ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ: لَوِ اسْتَغْفَرُوا. قَالُوا: وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَغْفِرُونَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَغْفِرُونَ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}". ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَوْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ مَا عُذِّبُوا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: هَمَّا أَمَانَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ: فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَمَضَى، نَبِيُ اللَّهِ. وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَبْقَاهُ اللَّهُ رَحْمَةً بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَقُولُ: مَا كُنْتُ أُعَذِّبُهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَوِ اسْتَغْفَرُوا وَأَقَرُّوا بِالذُّنُوبِ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَكَيْفَ لَا أُعَذِّبُهُمْ وَهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ؟ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ يَقُولُ: لَوِ اسْتَغْفَرُوا لَمْ أُعَذِّبْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذَِّبَهُمْ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ. قَالُوا: وَ" اسْتِغْفَارُهُمْ "، كَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِسْلَامَهُمْ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: سَأَلُوا الْعَذَابَ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِيُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: "وَأَنْتَ فِيهِم"، قَالَ: بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَقَوْلُهُ: "وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون"، قَالَ: يُسَلِّمُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: وَهُمْ يُسَلِّمُونَ " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ}"، قُرَيْشٌ، "عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَام". حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، قَالَ: بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، يَقُولُ: مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَذِّبُ قَوْمًا وَأَنْبِيَاؤُهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَقُولُ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ. ثُمَّ قَالَ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}"، فَعَذَّبَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَعْنِي: يُصَلُّونَ، يَعْنِي بِهَذَا أَهْلَ مَكَّةَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: يُصَلُّونَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ. يَقُولُ: لَمْ أَكُنْ لِأُعَذِّبَكُمْ وَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ. ثُمَّ قَالَ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، يَعْنِي: يُؤْمِنُونَ وَيُصَلُّونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، قَالَ: وَهُمْ يُصَلُّونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. قَالُوا: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}". ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَالَ فِي "الْأَنْفَال": " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}"، إِلَى قَوْلِهِ: " {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}"، فَقُوتِلُوا بِمَكَّةَ، وَأَصَابَهُمْ فِيهَا الْجُوعُ وَالْحَصْرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}"، يَا مُحَمَّدُ، وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُقِيمٌ، حَتَّى أَخْرَجَكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، لِأَنِّي لَا أُهْلِكُ قَرْيَةً وَفِيهَا نَبِيُّهَا {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} "، مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ، فَهُمْ لِلْعَذَابِ مُسْتَحِقُّونَ كَمَا يُقَالُ: " مَا كُنْتُ لِأُحْسِنَ إِلَيْكَ وَأَنْتَ تُسِيءُ إِلَيَّ "، يُرَادُ بِذَلِكَ: لَا أُحْسِنُ إِلَيْكَ، إِذَا أَسَأْتَ إِلَيَّ، وَلَوْ أَسَأْتَ إِلَيَّ لَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ أُحْسِنُ إِلَيْكَ لِأَنَّكَ لَا تُسِيءُ إِلَيَّ. وَكَذَلِكَ ذَلِكَ ثُمَّ قِيلَ: " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ "، بِمَعْنَى: وَمَا شَأْنُهُمْ، وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْ كُفْرِهِمْ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَهُمْ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: "هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَاب"، لِأَنَّ الْقَوْمَ أَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ كَانُوا اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، فَقَالُوا: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الْحَقَّ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم" فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: "مَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَمَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَهُمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا، وَكَيْفَ لَا أُعَذِّبُهُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِكَ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ ". فَأَعْلَمَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الَّذِي اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ حَائِقٌ بِهِمْ وَنَازِلٌ، وَأَعْلَمَهُمْ حَالَ نُزُولِهِ بِهِمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ. وَلَا وَجْهَ لِإِيعَادِهِمُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ مُسْتَعْجِلُوهُ فِي الْعَاجِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْعَذَابِ صَائِرُونَ. بَلْ فِي تَعْجِيلِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"، إِلَى أَنَّهُ عَنِيَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، وَعَمَّا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ. وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَقَضَّى، وَعَلَى ذَلِكَ [كُنِيَ] بِهِ عَنْهُمْ، وَأَنْ لَا خِلَافَ فِي تَأْوِيلِهِ مِنْ أَهْلِهِ مَوْجُودٌ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: "وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَام"، الْآيَةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون" خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَسْخٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ "أَن" فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}". فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: هِيَ زَائِدَةٌ هَهُنَا، وَقَدْ عَمِلَتْ كَمَا عَمِلَتْ "لَا" وَهِيَ زَائِدَةٌ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ: لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفَانُ لَا ذُنُوبَ لَهَا *** إِلَيَّ، لَامَ ذَوُو أَحْسَابِهَا عُمَرَا وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَالَ: لَمْ تَدْخُلْ "أَن" إِلَّا لِمَعْنًى صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَعْنَى: "وَمَا لَهُم"، مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يُعَذِّبُوا. قَالَ: فَدَخَلَتْ "أَن" لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَخْرَجَ بِ "لَا"، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ جَحْدٌ. قَالَ: وَ" لَا " فِي الْبَيْتِ صَحِيحٌ مَعْنَاهَا، لِأَنَّ الْجَحْدَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ جَحْدٌ صَارَ خَبَرًا. وَقَالَ: أَلَّا تَرَى إِلَى قَوْلِكَ: "مَا زَيْدٌ لَيْسَ قَائِمًا"، فَقَدْ أَوْجَبْتَ الْقِيَامَ؟ قَالَ: وَكَذَلِكَ "لَا" فِي هَذَا الْبَيْتِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَكُونُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ "إِنَّ أَوْلِيَاؤُه"، يَقُولُ: مَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ "إِلَّا الْمُتَّقُون"، يَعْنِي: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. "وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون" يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ، بَلْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}"، هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}"، مَنْ كَانُوا، وَحَيْثُ كَانُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}"، الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ حُرْمَتَهُ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَهُ، أَيْ: أَنْتَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ آمَنَ بِكَ يَقُولُ: "وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ، وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي يُصَلُّونَ لِلَّهِ فِيهِ وَيَعْبُدُونَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ، بَلْ أَوْلِيَاؤُهُ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ لَا يُّصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ}"، يَعْنِي: بَيْتَ اللَّهِ الْعَتِيقَ "إِلَّا مُكَاء"، وَهُوَ الصَّفِيرُ. يُقَالُ مِنْهُ: "مَكَا يَمْكُو مَكْوًا وَمُكَاء" وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ "الْمَكْو": أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمَا فِي فِيهِ، ثُمَّ يَصِيحُ. وَيُقَالُ مِنْهُ: "مَكَتِ اسْتُ الدَّابَّةِ مُكَاء"، إِذَا نَفَخَتْ بِالرِّيحِ. وَيُقَالُ: "إِنَّهُ لَا يَمْكُو إِلَّا اسْتٌ مَكْشُوفَة"، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلِاسْتِ "الْمَكْوَة"، سُمِّيْتُ بِذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا *** تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الْأَعْلَمِ وَقَوْلُ الطِّرِمَّاحِ: فَنَحَا لِأُولَاهَا بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ *** تَمْكُو جَوَانِبُهَا مِنَ الْإِنْهَارِ بِمَعْنَى: تُصَوِّتُ. وَأَمَّا "التَّصْدِيَة"، فَإِنَّهَا التَّصْفِيقُ، يُقَالُ مِنْهُ: "صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَة"، وَ" صَفَّقَ "، وَ" صَفَّح"، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبَى، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ، عَنْ حُجْرِ بْنِ عَنْبَسٍ: "إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَة"، قَالَ: "الْمُكَاء"، التَّصْفِيرُ وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، "الْمُكَاء"، التَّصْفِيرُ وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، يَقُولُ: كَانَتْ صَلَاةُ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْبَيْتِ "مُكَاء" يَعْنِي الصَّفِيرَ وَ" تَصْدِيَةً "، يَقُولُ: التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ، أَخْبَرَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: التَّصْفِيقُ وَالصَّفِيرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "الْمُكَاء"، التَّصْفِيقُ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، الصَّفِيرُ. قَالَ: وَأَمَالَ ابْنُ عُمَرَ خَدَّهُ إِلَى جَانِبٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: "الْمُكَاء" وَ" التَّصْدِيَةُ "، الصَّفِيرُ وَالتَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ يُحَدِّثُ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "الْمُكَاء"، الصَّفِيرُ، وَ" التَّصْدِيَةُ ": التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ، "الْمُكَاء" الصَّفِيرُ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ وَقَالَ قُرَّةُ: وَحَكَى لَنَا عَطِيَّةُ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ، فَصَفَّرَ، وَأَمَالَ خَدَّهُ، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}" قَالَ بَكْرٌ: فَجَمَعَ لِي جَعْفَرٌ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا صَفِيرًا، كَمَا قَالَ لَهُ أَبُو سَلَمَةَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْمُكَاء"، الصَّفِيرُ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سَابُورَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: تَصْفِيرٌ وَتَصْفِيقٌ. قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَبَوَيْهِ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ يُصَفِّرُونَ وَيُصَفِّقُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 32]، فَأُمِرُوا بِالثِّيَابِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّوَافِ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، يُصَفِّرُونَ بِهِ وَيُصَفِّقُونَ، فَنَزَلَتْ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "إِلَّا مُكَاء"، قَالَ: كَانُوا يَنْفُخُونَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَة"، قَالَ: "الْمُكَاء"، إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَ" التَّصْدِيَةُ " التَّصْفِيقُ، يَخْلِطُونَ بِذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: "صَلَاتَه". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْمُكَاء"، إِدْخَالُ أَصَابِعِهِمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. قَالَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، كَانُوا يَخْلِطُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاتَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ قَالَ أَحْمَدُ: سَقَطَ عَلَيَّ حَرْفٌ، وَمَا أَرَاهُ إِلَّا الْخَذْفُ وَالنَّفْخُ وَالصَّفِيرُ مِنْهَا، وَأَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَيْثُ كَانُوا يَمْكُوَنَ مِنْ نَاحِيَةِ أَبِي قُبَيْسٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: "الْمُكَاء"، كَانُوا يُشَبِّكُونَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمْ وَيُصَفِّرُونَ بِهَا، فَذَلِكَ "الْمُكَاء". قَالَ: وَأَرَانِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا يَمْكُوَنَ فِيهِ نَحْوَ أَبِي قُبَيْسٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ: "مُكَاءً وَتَصْدِيَة"، قَالَ: "الْمُكَاء" النَّفْخُ وَأَشَارَ بِكَفِّهِ قِبَلَ فِيهِ وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: "الْمُكَاء"، الصَّفِيرُ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنْ "الْمُكَاء"، التَّصْفِيقُ بِالْأَيْدِي، وَ" التَّصْدِيَةُ "، صِيَاحٌ كَانُوا يُعَارِضُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: "مُكَاءً وَتَصْدِيَة"، قَالَ: "الْمُكَاء"، التَّصْفِيرُ، وَ" التَّصْدِيَةُ "، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، وَ" الْمُكَاءُ "، الصَّفِيرُ، عَلَى نَحْوِ طَيْرٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَه" الْمُكَّاءُ "، يَكُونُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَ" التَّصْدِيَة"، التَّصْفِيقُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: "الْمُكَاء"، صَفِيرٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْلِنُونَ بِهِ. قَالَ: وَقَالَ فِي "الْمُكَاء"، أَيْضًا: صَفِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَلُعَبٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي "التَّصْدِيَة": إِنَّهَا "الصَّدُّ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَام". وَذَلِكَ قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ "التَّصْدِيَة"، مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "صَدَّيْتُ تَصْدِيَة". وَأَمَّا "الصَّد" فَلَا يُقَالُ مِنْهُ: "صَدَّيْت"، إِنَّمَا يُقَالُ مِنْهُ "صَدَدْت"، فَإِنْ شَدَّدْتَ مِنْهَا الدَّالَّ عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ قِيلَ: "صَدَّدْتَ تَصْدِيدًا". إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ وَجَّهَ "التَّصْدِيَة" إِلَى أَنَّهُ مِنْ "صَدَّدْت"، ثُمَّ قُلِبَتْ إِحْدَى دَالِيهِ يَاءً، كَمَا يُقَالُ: "تَظَنَّيْت" مِنْ "ظَنَنْت"، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ يَعْنِي: تَقَضُّضَ الْبَازِي، فَقَلَبَ إِحْدَى ضَادَيْهِ يَاءً، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ مَا ذَكَرْنَا فِي تَأْوِيلِ "التَّصْدِيَة". حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، صَدُّهُمْ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "وَتَصْدِيَة" قَالَ: "التَّصْدِيَة"، صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "وَتَصْدِيَة"، قَالَ: التَّصْدِيدُ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنْ دِينِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، قَالَ: مَا كَانَ صَلَاتُهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا يُدْرَأُ بِهَا عَنْهُمْ " {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}"، وَذَلِكَ مَا لَا يَرْضَى اللَّهُ وَلَا يُحِبُّ، وَلَا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَلَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}"، فَإِنَّهُ يَعْنِي الْعَذَابَ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ. يَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: " {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}" الْآيَةَ، حِينَ أَتَاهُمْ بِمَا اسْتَعْجَلُوهُ مِنَ الْعَذَابِ "ذُوقُوا"، أَيِ اطَّعِمُوا، وَلَيْسَ بِذَوْقٍ بِفَمٍ، وَلَكِنَّهُ ذَوْقٌ بِالْحِسِّ، وَوُجُودُ طَعْمِ أَلَمِهِ بِالْقُلُوبِ. يَقُولُ لَهُمْ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَجْحَدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُعَذِّبَكُمْ بِهِ عَلَى جُحُودِكُمْ تَوْحِيدَ رَبِّكُمْ، وَرِسَالَةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}"، أَيْ: مَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْقَتْلِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}"، قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهِلُ بَدْرٍ، يَوْمَ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}"، يَعْنِي أَهْلَ بَدْرٍ، عَذَّبَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، فَيُعْطُونَهَا أَمْثَالَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَتَقَوَّوْا بِهَا عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِيَصُدُّوا الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَسَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ نَفَقَتُهُمْ تِلْكَ عَلَيْهِمْ "حَسْرَة"، يَقُولُ: تَصِيرُ نَدَامَةً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَذْهَبُ، وَلَا يَظْفَرُونَ بِمَا يَأْمُلُونَ وَيَطْمَعُونَ فِيهِ مِنْ إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى كَلِمَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ مُعْلِي كَلِمَتِهِ، وَجَاعِلَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ السُّفْلَى، ثُمَّ يَغْلِبُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَحْشُرُ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ إِلَى جَهَنَّمَ، فَيُعَذَّبُونَ فِيهَا، فَأَعْظِمَ بِهَا حَسْرَةً وَنَدَامَةً لِمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ وَمَنْ هَلَكَ! أَمَّا الْحَيُّ، فَحُرِبَ مَالُهُ وَذَهَبَ بَاطِلًا فِي غَيْرِ دَرَكِ نَفْعٍ، وَرَجَعَ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا مَحْرُوبًا مَسْلُوبًا. وَأَمَّا الْهَالِكُ، فَقُتِلَ وَسُلِبَ، وَعُجِّلَ بِهِ إِلَى نَارِ اللَّهِ يَخْلُدُ فِيهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى النَّفَقَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذُكِرَ، أَبَا سُفْيَانَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}" الْآيَةَ، "وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يَحْشُرُون"، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ. اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشَ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَاتَلَ بِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُ فِيهِمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: وَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطَهُ *** أَحَابِيشُ، مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ *** ثَلَاثُ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَ، فَأَرْبَعُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}"، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ لِيُقَاتِلَ بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ. أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ خَطَّابِ بْنِ عُثْمَانَ الْعُصْفُرِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}"، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ. أَنْفَقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}"، الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ إِلَى مَكَّةَ أَشَّبَ النَّاسَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْقِتَالِ، حَتَّى غَزَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَكَانَتْ بَدْرٌ فِي رَمَضَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَابِعَ عَشَرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَكَانَتْ أُحُدٌ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ فِي الْعَامِ الرَّابِعِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ فِيمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ، وَمِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، يَسْتَأْجِرُونَ الرِّجَالَ يُقَاتِلُونَ مُحَمَّدًا بِهِمْ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}"، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}"، يَقُولُ: نَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَيْلٌ "ثُمَّ يُغْلَبُون". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} "، الْآيَةَ حَتَّى قَوْلِهِ: "أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون"، قَالَ: فِي نَفَقَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْكُفَّارِ يَوْمَ أُحُدٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنُ قَتَادَةَ، وَالْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، [وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلُّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بَعْضَ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ. وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلُّهُ فِيمَا سُقْتُ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالُوا: أَوْ مَنْ قَالَهُ مِنْهُمْ: لَمَّا أُصِيبَ] يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بَعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنْ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا! فَفَعَلُوا. قَالَ: فَفِيهِمْ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنْزَلَ اللَّهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}" إِلَى قَوْلِهِ: " {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}"، إِلَى قَوْلِهِ: "يُحْشَرُون"، يَعْنِي النَّفَرَ الَّذِينَ مَشَوْا إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَى مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُقَوُّوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَعَلُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}"، الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}" الْآيَةَ، قَالَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. لَمْ يُخْبِرْنَا بِأَيِّ أُولَئِكَ عَنَى، غَيْرَ أَنَّهُ عَمَّ بِالْخَبَرِ "الَّذِينَ كَفَرُوا". وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى الْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِأُحُدٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى الْمُنْفِقِينَ مِنْهُمْ ذَلِكَ بِبَدْرٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى الْفَرِيقَيْنِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعُمَّ كَمَا عَمَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَحْشُرُ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَى جَهَنَّمَ، لِيُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الْخُبْثِ، كَمَا قَالَ وَسَمَّاهُمْ "الْخَبِيث" وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَهُمْ "الطَّيِّبُون"، كَمَا سَمَّاهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. فَمَيَّزَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيْنَهُمْ بِأَنْ أَسْكَنَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ جَنَّاتِهِ، وَأَنْزَلَ أَهْلَ الْكُفْرِ نَارَهُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}" فَمَيَّزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ثُمَّ ذَكَّرَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُصْنَعُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: " {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}"، يَقُولُ: يُمَيِّزُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، فَيُجْعَلُ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَيَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَيُجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}"، فَيَحْمَلُ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ " {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا}"، يَقُولُ: فَيَجْعَلُهُمْ رُكَامًا، وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَكْثُرُوا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي صِفَةِ السَّحَابِ: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [سُورَةُ النُّورِ: 43]، أَيْ مُجْتَمِعًا كَثِيفًا، وَكُمًّا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا}"، قَالَ: فَيَجْمَعُهُ جَمِيعًا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: "فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّم" يَقُولُ: فَيَجْعَلُ الْخَبِيثَ جَمِيعًا فِي جَهَنَّمَ فَوَحَّدَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ لِتَوْحِيدِ قَوْلِهِ: " {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ}"، ثُمَّ قَالَ: "أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون"، فَجَمَعَ، وَلَمْ يَقُلْ: "ذَلِكَ هُوَ الْخَاسِر"، فَرَدَّهُ إِلَى أَوَّلِ الْخَبَرِ. وَيَعْنِي بِ "أُولَئِك"، الَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَأْوِيلُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ "هُمُ الْخَاسِرُون"، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "الْخَاسِرُون" الَّذِينَ غُبِنَتْ صَفْقَتُهُمْ، وَخَسِرَتْ تِجَارَتُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَوْا بِأَمْوَالِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَعَجَّلُوا بِإِنْفَاقِهِمْ إِيَّاهَا فِيمَا أَنْفَقُوا مِنْ قِتَالِ نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، الْخِزْيَ وَالذُّلَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُل"، يَا مُحَمَّدُ، "لِلَّذِينِ كَفَرُوا"، مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ "إِنْ يَنْتَهُوا"، عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقِتَالِكَ وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُنِيبُوا إِلَى الْإِيمَانِ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمْ مَا قَدْ خَلَا وَمَضَى مِنْ ذُنُوبِهِمْ قَبْلَ إِيمَانِهِمْ وَإِنَابَتِهِمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بِإِيمَانِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ "وَإِنْ يَعُودُوا"، يَقُولُ: وَإِنْ يَعُدْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِقِتَالِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ الَّتِي أَوْقَعْتَهَا بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتِي فِي الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، إِذْ طَغَوْا وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحَهُمْ، مِنْ إِحْلَالِ عَاجِلِ النِّقَمِ بِهِمْ، فَأَحِلُّ بِهَؤُلَاءِ إِنْ عَادُوا لِحَرْبِكَ وَقِتَالِكَ، مِثْلَ الَّذِي أَحْلَلْتُ بِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: "فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِين"، فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}"، قَالَ: فِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ فِي قَوْلِهِ: " {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا}" لِحَرْبِكَ "فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِين"، أَيْ: مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "وَإِنْ يَعُودُوا"، لِقِتَالِكَ "فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِين"، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: وَإِنْ يَعُدْ هَؤُلَاءِ لِحَرْبِكَ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ سُنَّتِي فِيمَنْ قَاتَلَكُمْ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَا عَائِدٌ بِمِثْلِهَا فِيمَنْ حَارَبَكُمْ مِنْهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ، وَلَا يُعْبَدَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَيَرْتَفِعُ الْبَلَاءُ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ "الْفِتْنَة" " وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ "، يَقُولُ: حَتَّى تَكُونَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ خَالِصَةً دُونَ غَيْرِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، يَعْنِي: حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، قَالَ: "الْفِتْنَة"، الشِّرْكُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، يَقُولُ: قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ " {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}"، حَتَّى يُقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه"، عَلَيْهَا قَاتَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَيْهَا دَعَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ شِرْكٌ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فُضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ بَلَاءٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}"، أَيْ: لَا يُفْتَنُ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ، وَيَكُونُ التَّوْحِيدُ لِلَّهِ خَالِصًا لَيْسَ فِيهِ شِرْكٌ، وَيُخْلَعُ مَا دَونَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، قَالَ: حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ " {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}"، لَا يَكُونُ مَعَ دِينِكُمْ كُفْرٌ. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ: "سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ مُخْرِجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. كَانَ مِنْ شَأْنِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ، فَنِعْمَ النَّبِيُّ ! وَنِعْمَ السَّيِّدُ! وَنِعْمَ الْعَشِيرَةُ! فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَعَرَّفَنَا وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَحْيَانَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَمَاتَنَا عَلَيْهَا، وَبَعَثَنَا عَلَيْهَا. وَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْعُدُوا مِنْهُ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَكَادُوا يَسْمَعُونَ لَهُ، حَتَّى ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ. وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ مِنْ قُرَيْشٍ، لَهُمْ أَمْوَالٌ، أَنْكَرَ ذَلِكَ نَاسٌ، وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِ، وَكَرِهُوا مَا قَالَ، وَأَغْرَوْا بِهِ مَنْ أَطَاعَهُمْ، فَانْصَفَقَ عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ فَتَرَكُوهُ، إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ. فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ ائْتَمَرَتْ رُؤُوسُهُمْ بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنِ اتَّبَعَهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةً شَدِيدَةَ الزِّلْزَالِ، فَافْتَتَنَ مَنِ افْتَتَنَ، وَعَصَمَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ. فَلَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَ بِالْحَبَشَةِ مَلِكٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَه" النَّجَاشِيُّ "، لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ بِأَرْضِهِ، وَكَانَ يُثْنَى عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ [صَلَاحٌ]، وَكَانَتْ أَرْضُ الْحَبَشَةِ مْتُجَرًا لِقُرَيْشٍ، يْتُجِرُونَ فِيهَا، وَمَسَاكِنَ لِتِجَارِهِمْ يَجِدُّونَ فِيهَا رَفَاغًا مِنَ الرِّزْقِ وَأَمْنًا وَمُتَّجَرًا حَسَنًا، فَأَمَرَهُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا عَامَّتُهُمْ لَمَّا قُهِرُوا بِمَكَّةَ، وَخَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتَنَ. وَمَكَثَ هُوَ فَلَمْ يَبْرَحْ. فَمَكَثَ ذَلِكَ سَنَوَاتٍ يَشْتَدُّونَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهَا، وَدَخَلَ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَمَنَعَتُهُمْ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، اسْتَرْخَوُا اسْتِرْخَاءَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ. وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الْأَوْلَى هِيَ أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، مَخَافَتَهَا، وَفِرَارًا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالزِّلْزَالِ. فَلَمَّا اسْتُرْخِيَ عَنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ، تُحُدِّثَ بِاسْتِرْخَائِهِمْ عَنْهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَدِ اسْتُرْخِيَ عَمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ، وَكَادُوا يَأْمَنُونَ بِهَا، وَجَعَلُوا يَزْدَادُونَ، وَيَكْثُرُونَ. وَأَنَّهُ أَسْلَمُ مِنْ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا بِالْمَدِينَةِ الْإِسْلَامُ، وَطَفِقَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ. فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ، تَذَامَرَتْ عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ وَيَشْتَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهُمْ، وَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَفْتِنُوهُمْ، فَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ. وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ الْآخِرَةُ. فَكَانَتْ ثِنْتَيْنِ: فِتْنَةً أَخْرَجَتْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حِينَ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا وَفِتْنَةً لَمَّا رَجَعُوا وَرَأَوْا مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ سَبْعُونَ نَقِيبًا، رُؤُوسُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَوَافَوْهُ بِالْحَجِّ، فَبَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَأَعْطَوْهُ عُهُودَهُمْ عَلَى أَنَّا مِنْكَ وَأَنْتَ مِنَّا، وَعَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَوْ جِئْتَنَا، فَإِنَّا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا. فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهِيَ الْفِتْنَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي أَخْرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَخَرَجَ هُوَ، وَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ مُخْرِجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَعِنْدِي، بِحَمْدِ اللَّهِ، مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ بِكُلِّ مَا كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَسَأُخْبِرُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}"، قَالَ: "يَسَاف" وَ" نَائِلَةُ "، صَنَمَانِ كَانَا يُعْبَدَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَإِنِ انْتَهَوْا"، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَصَارُوا إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ مَعَكُمْ "فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير"، يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَعْمَلُونَ مِنْ تَرْكِ الْكُفْرِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ يُبْصِرُكُمْ وَيُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُتَجَلِّيَةٌ لَهُ، لَا تَغِيبُ عَنْهُ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ، فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ أَدْبَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَمَّا دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَرَكِ قِتَالِكُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ وَقِتَالَكُمْ، فَقَاتِلُوهُمْ، وَأَيْقِنُوا أَنَّ اللَّهَ مُعِينُكُمْ عَلَيْهِمْ وَنَاصِرُكُمْ "نِعَمَ الْمَوْلَى"، هُوَ لَكُمْ، يَقُولُ: نِعْمَ الْمُعِينُ لَكُمْ وَلِأَوْلِيَائِهِ "وَنِعْمَ النَّصِير"، وَهُوَ النَّاصِرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: "وَإِنْ تَوَلَّوْا"، عَنْ أَمْرِكَ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاكُمُ الَّذِي أَعَزَّكُمْ وَنَصْرَكُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فِي كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ "نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير".
|